مرحى غيلان
بابا .. بابــــــا
ينسابُ صوتك في الظلامِ إليّ كالمطر الغضيرِ
ينسابُ من خلل النعاسِ وأنت ترقد في السريرِ
من أي رؤيا جاء؟ أي سماوةٍ؟ أي انطلاقِ؟
وأظلّ أسبحُ في رشاشٍ منه أسبحُ في عبيرِ..
فكأن أودية العراق
فتحت نوافذ من رؤاكَ على سهادي: كل وادِ
وهبتهُ عشتار الأزاهر والثمار. كأن روحي
في تربةِ الظلماءَ حبّة حنطةٍ وصداكَ ماءُ
أعلنتِ بعثي يا سماءُ
هذا خلودي في الحياة تكنُّ معناهُ الدماءُ
"بابا" ..كأنّ يد المسيحِِ
فيها, كأنّ جماجمُ الموتى تبرعمُ في الضريحِ
تموز عاد بكل سنبلةٍ تُعابثُ كلّ ريحِ
"بابا... بابــــــا"
أنا في قرارِ بويبَ أرقد.. في فراشٍ من رمالِه
من طينهِ المعطور, والدمُ من عروقي في زلالِه
ينثال كي يهب الحياة لكلّ أعراقِ النخيل
أنا بَعْلُ: أخــطر في الجليل
على المياهِ, أنثّ في الورقاتِ روحي والثمار
والماء يهمس بالخرير.. يصلّ حولي بالمحارِ
وأنا بويبُ أذوب في فرحي وأرقد في قراري
"بابا.. بابــــا"
يا سلّم الأنغام, أيّةُ رغبةٍ في قرارِك؟
"سيزيف" يرفعها فتسقط للحضيض مع انهيارك
يا سُلّمَ الدم والزمان: من المياه إلى السماءِ
غيلان يصعد فيه نحوي من تراب أبي وجــدّي
ويداه تلتمسان, ثَّم, يَدي وتحتضنان خـــدّي
فأرى ابتدائي في انتهائي
"بابا .. بابــــا"
جيكور من شفتيكَ تولّدَ, من دمــائك, في دمائــي
فتحيل أعمدة المدينة
أشجار توتٍ في الربيع, ومن شوارعها الحزينة
تتفجّر الأنهار, أسمع من شوارعها الحزينة
ورَقَ البراعم وهو يكبر أو يمصُّ مع الصباح
والنّسـغَ في الشجراتِ يهمـس, والسنابل في الرياحِ
تَعِدُ الرحى بطعامهنّ .
كأن أوردة السمــــــاء
تتنفس الدم في عروقي والكواكــب في دمائي
يا ظــلّي الممتدّ حين أموت, يا ميلاد عمري من جديدِ
الأرضُ( يا قفصاً من الــــدم والأضافر والحديــدِ
حيث المسيحُ يظلُّ ليسَ يموت أو يحيا... كظــلٍّ
كَيــدٍ بلا عصبٍ , كهيكــل ميّتٍ , كضحى الجليدِ
النور والظلماءُ فيهِ متاهتانِ بلا حدودِ )
عشتارُ فيها دون بعلٍ
والموتُ يركض في شوارعها ويهتف : يا نيــامُ
هبّوا , فقد وُلِــــدَ الظلامُ
وأنا المسيحُ أنا السلامُ
والنارُ تصرخُ يا ورودُ تفتّحي, وُلِــــدَ الربيعُ
وأنا الفراتُ , ويا شموعُ
رشّي ضريح البعلِ بالدم والهُباب وبالشحوبِ
والشمسُ تُعــــوِّلُ في الدروبِ
بردانةٌ أنا والسماءُ تنوءُ بالسحب الجليدِ
" بابا.. بابـــــا"
من أي شمسٍ جــاء دفــــؤكَ أيّ نجمٍ في السماءِ؟
ينســلُّ للقفصِ الحديدِ , فيورقُ الغدُ في دمائي؟.
***
بدر شــــاكر السيّـــاب
مع تحياتي